الصّديق وقت الضّيق
أكثر ما يشعر المرء بحاجته إلى صديقه عند الأزمات، فعند خلّوه من المشاكل فإنّه يضحك وتضحك له الدّنيا، والكلّ حوله مبتهج مسرور، أمّا إذا قلب له الدّهر ظهر المجنّ، فإنّ أكثرهم ينفضّون من حوله ولا يبقى إلاّ الصّديق الحقيقيّ، فليس كلّ من نلتقيهم ونعاشرهم أصدقاء، وكما يقول الإمام عليّ عليه السّلام: «عند زوال القدرة يتبيّن الصّديق من العدّو». ويقول في موضع آخر: «لا يعرف النّاس إلا بالاختبار، فاختبر أهلك وولدك في غيبتك، وصديقك في مصيبتك، وذا القرابة عند فاقتك، وذا التّودّد والملق عند عطلتك، لتعلم بذلك منزلتك عندهم».
وقد حدّد الإمام الصّادق عليه السّلام الصّديق بقوله: «في الشّدّة يختبر الصّديق»؛ ويقول في موضع آخر: «لا تسمّ الرّجل صديقاً سمة معرفة حتى تختبره بثلاث: تغضبه فتنظر يخرجه من الحقّ إلى الباطل، وعند الدّينار والدّرهم، وحتّى تسافر معه». وهذه حقيقة نعاينها في حياتنا اليوميّة، فمن الصّعب أن يخفي الإنسان سلوكه وطبعه عند الغضب، وفي السّفر، فالسّفر يكشف معدن الإنسان، فيظهر مدى صبره، وسرعة انفعاله وغضبه، وتحمّله عناء السّفر والصّحبة، كما يكشف كثيراً من مكنونات نفسه وشخصيّته، واهتمامه براحة الآخرين وعدم إزعاجهم... على أنّ ذلك لا يعني العطاء في ميزان الصّداقة دون مقابل، فالآخر وجب أن يقابله بحسن المعاملة أيضاً، وهذا ما يظهره الإمام زين العابدين عليه السّلام بقوله: «أما حقّ الصّاحب: فأن تصحبه بالتّفضّل والإنصاف، وتكرمه كما يكرمك، ولا تدعه يسبق إلى مكرمة، فإن سبق كافأته، وتودّه كما يودّك، وتزجره عمّا يهمّ به من معصية، وكن عليه رحمة، ولا تكن عليه عذاباً». وكان الإمام عليّ عليه السّلام يقول: «من لم يرض من صديقه إلّا بإيثاره على نفسه دام سخطه».
وللإمام الحسن بن عليّ عليهما السّلام وصيّة لطيفة لأحد أصحابه يقول فيها: «اصحب من إذا صحبته زانك، وإذا خدمته صانك، وإذا أردت منه معونة أعانك، وإن قلت صدق قولك، وإن صلت شدّ صولك، وإن مددت يدك بفضل مدّها، وإن بدت عنك ثلمة سدّها، وإن رأى منك حسنة عدّها، وإن سألته أعطاك، وإن سكت عنه ابتداك، وإن نزلت إحدى الملمّات به ساءك». وكان الإمام الصّادق عليه السّلام، يرى امتحان الصّديق بثلاث خصال: «فإن كان مؤاتياً فيها فهو الصّديق المصافي، وإلاّ كان صديق رخاء لا صديق شدّة: تبتغي منه مالاً، أو تأمنه على مال، أو تشاركه في مكروه». أمّا لقمان الحكيم فكان يقول: «لا تعرف أخاك إلاّ عند حاجتك إليه».
كثرة الأصدقاء وقلّتهم
يحيط بعض النّاس أنفسهم بأصدقاء كثر، وبعضهم الآخر لا يُوَفّقون في إرساء صداقات حقيقيّة، وسرعان ما ينفضّ أصدقاؤهم وزملاؤهم من حولهم، وأكثر من يتجنّب النّاس معاشرتهم هم أصحاب الطّباع الصّعبة والمشاكسة، الذين يملكون ألسنة سليطة كالسّيف، في حين «من لانت عريكته وجبت محبّته، ومن لان عوده كثفت أغصانه(3)». وكان الإمام العسكري عليه السّلام يقول: «من كان الورع سجيّته، والكرم طبيعته، والحلم خلّته، كثر صديقه والثّناء عليه، وانتصر من أعدائه بحسن الثّناء عليه». وقد أوصى الإمام عليّ عليه السّلام ابنه محمد بن الحنفيّة بقوله: «إيّاك والعجب وسوء الخلق وقلّة الصّبر، فإنّه لا يستقيم لك على هذه الخصال الثّلاث صاحب، ولا يزال لك عليها من النّاس مجانب».
وقد يخسر بعض النّاس صداقاتهم بسبب نجاح أصابوه في حياتهم فدخل الحسد إلى أقرانهم، ولهذا وعظ الإمام زين العابدين عليه السّلام الزّهريّ، وكان فقيه المدينة المنوّرة في عصره، حين رآه حزيناً من توالي الهموم والغموم عليه من جهة الحسّاد ومن أحسن إليهم: «أمّا عليك أن تجعل المسلمين منك بمنزلة أهل بيتك فتجعل كبيرهم منك بمنزلة والدك، وتجعل صغيرهم منك بمنزلة ولدك، وتجعل تربك بمنزلة أخيك، فأي هؤلاء تحب أن تظلم ؟ !... وإن عرض لك إبليس لعنه الله أن لك فضلاً على أحد من أهل القبلة، فانظر إن كان أكبر منك فقل: قد سبقني بالإيمان والعمل الصّالح فهو خير منّي، وإن كان أصغر منك فقل قد سبقته بالمعاصي والذّنوب فهو خير منّي، وإن كان تربك فقل: أنا على يقين من ذنبي وفي شكٍّ من أمره، فما لي أدع يقيني لشكّي. وإن رأيت المسلمين يعظّمونك ويوقّرونك ويبجّلونك، فقل: هذا فضل أخذوا به. وإن رأيت منهم جفاء وانقباضاً عنك فقل: هذا الذّنب أحدثته. فإنّك إذا فعلت ذلك سهّل الله عليك عيشك، وكثر أصدقاؤك، وقل أعداؤك